Wednesday, April 16, 2008

الحلقة التانية

الحلقة التانية منقول من موقع روايات مصرية
" الاسكندرية " ... الحمد لله
لقد جاءني التنسيق علي جامعة الاسكندرية , وكنت في غاية السرور لهذا , حيث أني أحب الحرية وأريد الهجرة من المنزل , فذللت الصعاب أمام أهلي قائلا أنها نزهة وردية أعود منها بعد عام .
- وأين ستعيش
- في شقتنا بالعجمي
- والأكل والمواصلات و ......
- والحل ؟؟
- المدينة الجامعية . هكدذا هتف أبي في عبقرية يحسد عليها , ثم أخذ يروي لي كيف أنه في شبابه كان نزيلا في نفس المدينة , وأخذ يحكي عنها بافتتان وكأن المدينة الجامعية هي عاصمة الجنة .
و أخذ يقنع أمي ثم يقنعني – يبدو أنه قد وجدها فرصة للتخلص مني – ولم أكن محتاجا في الواقع لهذا الإقناع , فأنا أريد أن أسافر .
سافرت إلي مدينة الثغر الساحرة صيفا وشتاء , وأقمت عند أقاربي أولا قبل دخول المدينة ، حتي عندما ظهرت كشوف المقبولين في المدينة تلكأت أسبوعا أو يزيد حتي أعرف ( ايه النظام يعني ) , وفي أحد الأيام سألت أحد زملائي المقيمين بالمدينة :
- حاتم .. انت ساكن في المدينة ؟
بشرود : نعم .
- ايه رأيك في الأكل ؟
- نعم ؟؟
- الأكل .. الأكل ايه نظامه ؟
- الأكل!!!!!أكل ايه يا بني ؟

يبدو أنه من فرط السعادة في المدينة نسي الأكل وشهوات البطن , هذا رائع .
قررت أن أخوض التجربة بنفسي , فذهبت لاستلام غرفتي بالمدينة , وحين دخلتها لأول مرة أصبت بالصدمة فالغرفة التي طالما حلمت بها لا تتسع لي ولحقيبتي معا إلاّ بأوضاع هندسية معقدة , فكيف بالحياة فيها لعام كامل؟!!
كانت المشكلة التي تؤرقني فعلا هي كيفية الصلاة في الغرفة , فإما أن أصلي كالمصابين بالشلل الرعّاش , وإما أن أصلي مثل باقي الخلق و أصطدم بالحائط من خلفي وأمامي وبالسقف من فوقي , أما التحركات داخل الغرفة فهي العذاب ذاته , وهنا خطرت لي فكرة , سألتحق بمدرسة لتعليم الباليه الإيقاعي .. هذا هو الحل الوحيد .
في اليوم التالي جاءني أحد ( الجيران ) طرق الباب ففتحت
- السلام عليكم
- وعليكم السلام
- والنبي ممكن حبة شاي ومعلقتين سكر؟
- لا والله آسف , أنا لا أشرب الشاي وبالتالي لا أشتريه
- طيب كوباية
- برضه آسف , أصل الدكتور مانعني من الشرب أساسا
- طيب فوطة .. فرشة .. ملاية .. مكنة حلاقة .. أي حاجة تطلع من ذمتك
- الله يسهل لك .

أغلقت الباب قبل أن أسمع أوبرا " أبويا في المستشفي " أو سيمفونية " أنا باجري علي أيتام " .
عشت بعد ذلك في حالة نفسية سيئة للغاية , وفي طريق العودة للمدينة تذكرت أغنية المطرب ( كاظم الساهر)
" أدخلني حبك سيدتي مدن الأحزان " .. لابد أنه كان يقصد المدن الجامعية .
ذهبت للغداء في ( المطعم ) كما يطلقون عليه , وهو – لمن لا يعلم – يبعد عن مباني الإسكان بحوالي سبعة كيلومترات , أو هكذا خيل لي من شدة الجوع والتعب , وقلت لنفسي أنني سأتحسن بمجرد أن ( آكل ) وستدب الدماء في عروقي ,اري الحياة باللون الوردي .
أخذت صينية وتوجهت إلي موزع الطعام (*) ولكن لشدة دهشتي وجدت الطلاب يتوجهون بالصواني إلي الحمام فسألت أحدهم :

- - هو حضرتك رايح فين بالصينية ؟
- - رايح أغسلها في الحمام
- - انت خلصت أكل
- - أكل !!! الظاهر انك مستجد
وجاء زميل له يسأله
- انت برضه رايح تغسل الصينية ؟
- ايوة , أصلها مش نضيفة
- قال يعني الأكل هو اللي نضيف

وصعقت مما سمعت , فلابد أنهما ينظران إلي النصف الخالي من الكوب ، المهم غسلت الصينية وتوجهت إلي موزع الطعام وقد سمعت أن قائمة الغداء اليوم تتكون من : أرز , خضار , فراخ ,سلاطة, برتقال , خبز بلدي ..

يا لها من قائمة شهية
وقفت أمام موزع الأرز الذي ضرب الكبشة في الإناء , ولكن يبدو أن الطريق الجوي من الإناء إلي صينيتي مليئ بالمطبات الهوائية حيث أن نصف الأرز قد وقع ثانية في الإناء , والمؤسف أن الموزع قد وضع في الصينية نصف ما تبقي في الكبشة من أرز وأعاد النصف الآخر إلي الإناء من غير سوء , وقفت منتظرا أن يملأ الصينية بالأرز ولكنه زمجر لأتحرك , وحين أخبرته أن الكمية غير كافية بدأ الغناء الأوبرالي عن ( التلاتين ملطوش ) الذين ندفعهم شهريا واختتمها بكونشرتو ( ربنا يتوب علينا من الشغلانة دي ).
ولم يختلف الحال كثيرا عند موزع الخضار , ولكني وقفت طويلا محاولا معرفة كنه ذلك الكائن العجيني الأخضر ذي الأقدام الذي يقبع في الإناء , ونظرت الي الموزع مستفسرا فقال في فخر ( فاصوليا ) فهززت رأسي أن شكرا وأنا أعجب كيف يمكنه أن يقف أمام الإناء دون أن يسد أنفه .
أما عند موزع الدجاج فقد ترددت كثيرا أن أطلب ( صدر ) بدلا من ( الورك ) ولكن نظرة شرسة علي وجه الموزع جعلتني أعدل عن ذلك .
أخذت الصينية التي امتلأت حتي ربعها – مع التفاؤل –ولكنني قلت لنفسي أن أكف عن النظر إلي النصف الخالي من الكوب .
عند الأكل اكتشفت أن الطعام هنا له طقوسه الخاصة , فالأرز يتم تنقيته أثناء الأكل, والخضار يجب أن يوضع عليه أطنان من الملح حتي يطغي علي طعمه الذي ليس له طعم – هذا قبل أن تكتشف أن الملح غير صالح للإستخدام الآدمي أساسا , أما السلاطة فيبدو أنها مضروبة بالشبشب , والفاكهة لا تؤكل , والطامة الكبري كانت في الخبز الذي كان صلبا للغاية , استحالة يؤكل أو يقطع إلاّ بمنشار كهربائي(*) , ولكنني احتفظت به لغرض في نفسي .
ووجدتني تلقائيا أتراجع عن نظرية ( النصف الخالي من الكوب ) حيث أنني- بالتدقيق- لم أجد كوبا من الأساس .
وبدأ اكتئاب المدينة يتمكن مني , وبدأت أكتسب صفة ( التتنيح ) و( السنتحة ) المميزين لأغلب طلبة المدينة .
- طرق عليّ اليوم الباب ذات الجار السئيل , مددت يدي إلي موضع أعرفه جيدا في الغرفة , وتناولت رغيف الخبز إياه .. و طااااخ .. قذفته علي رأسه , فيما بعد عرفت أنه قد نال سبع غرز في رأسه , والله أحسن .
راجع الي المدينة في منتهي البؤس ومازال صوت ( كاظم ) يطاردني " وأنا من قبلك لم أعرف مدن الأحزان " .
فتحت باب الغرفة واستعددت للحركات البهلوانية – طقوس دخول الغرفة – أولا أستدير 270 درجة في اتجاه عكس عقارب الساعة ثم أغلق الباب بكعب قدمي والقفز مباشرة مع إحناء الرأس والنزول علي أطراف أصابعي مع ثني الركبتين ثم الارتماء علي السرير , وهممت بالنوم الذي سوف ينسيني ما أمر به ولو بشكل مؤقت , ولكني فوجئت بمن يطرق الباب .. لابد أنه ذات الجار السئيل إياه جاء مطالبا بالثأر .. فتحت الباب , لم يكن هو الجار بل شخص غريب آخر

- أي خدمة ؟
- - أنا محسن
- - محسن مين
- - زميلك في الغرفة
وسقطت مغشيا عليّ

د. تامر أحمد
ــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) موزع الطعام : شخص يوزع الطعام
( * ) اهداء خاص الي وزير التموين

No comments: